فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)}
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه قال: {الإِل} الله عز وجل.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة قال: الإِل: الله.
وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عزَّ وجل: {إلًا ولا ذمة} قال: الإِل القرابة، والذمة العهد. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول:
جزى الله ألا كان بيني وبينهم ** جزاء ظلوم لا يؤخر عاجلًا

وأخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء عن ميمون بن مهران رضي الله عنه. أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رضي الله عنهما: أخبرني عن قول الله تعالى: {لا يرقبون في مؤمن إلًا ولا ذمة} قال: الرحم، وقال فيه حسان بن ثابت:
لعمرك أن الك من قريش ** كال السقب من رال النعام

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وأكثرهم فاسقون} قال: ذم الله تعالى أكثر الناس. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً} الآية.
المستفهمُ عند محذوفٌ، لدلالة المعنى عليه، فقدَّره أبو البقاءِ كيف تَطْمئنون، أو كيف يكونُ لهم عهدٌ؟ وقدَّره غيره: كيف لا تقاتلونهم؟.
والتقدير الثاني مِنْ تقديري أبي البقاء أحسنُ؛ لأنَّه من جنس ما تقدَّم، فالدلالةُ عليه أقْوى.
وقد جاء الحذفُ في هذا التركيب كثيرًا، وتقدَّم منه قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} [آل عمران: 25]، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} [النساء: 41]؛ وقال الشاعر: [الطويل]
وخَبَّرْتُمَاني أنَّما الموتُ في القُرَى ** فكيْفَ وهاتا هَضْبَةٌ وكَثِيبُ

أي: كيف مات؟ وقال الحطيئةُ: [الطويل]
فَكيْفَ ولمْ أعلمْهُم خَذلُوكُمُ ** علَى مُعظمٍ ولا أديمَكُمُ قدُّوا

أي: كيف تلومونني في مدحهم؟
قال أبُو حيَّان: وقدَّر أبو البقاءِ الفعل بعد كيف بقوله: كيف تطمئنون، وقدَّره غيره بـ كيف لا تقاتلونهم؟.
قال شهابُ الدِّين: ولم يقدره أبُو البقاء بهذا وحده، بل به، وبالوجه المختار كما تقدَّم منه.
قوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا} {كيف} تكرار، لاستبعاد ثبات المشركينَ على العهد، وحذف الفعل، لكونه معلومًا، أي: كيف يكون لهم عهد وحالهم أنَّهُمْ إن يظهروا عليكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولا يبقوا عليكم.
والجملة الشرطية من قوله: {إِن يَظْهَرُوا} في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي: كيف يكونُ لهم عهدٌ، وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: 169]، و{لا يرْقُبوا} جوابُ الشرط، وقرأ زيد بن علي: {وإن يُظهَرُوا} ببنائه للمفعول، من أظهره عليه، أي: جعله غالبًا له، يقال: ظهرت على فلان: إذا علوته، وظهرت على السطح: إذا صرت فوقه.
قال اللَّيْثُ: الظُّهور: الظَّفر بالشَّيء، وأظهر اللهُ المسلمين على المشركين، أي: أعلاهُم عليهم.
قال تعالى: {فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] أي: ليعليه.
قوله: {لاَ يَرْقُبُواْ} قال الليثُ رقبَ الإنسانَ يرقبُ رقْبةً ورِقْبَانًا، هو أن ينتظره.
والمعنى: لا ينتظروا، قاله الضحاكُ، ورقيب القوم: حارسهم، وقوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] أي: لم تحفظه.
وقال قطربٌ: لا يراعوا فيكم إلاَّ.
قوله: إلًا مفعولُ به بـ {يَرْقُبُوا}.
وفي الإِلِّ أقوالٌ:
أحدها: أنَّ المراد به العهد، قاله أبو عبيدة، وابن زيد، والسديُّ وكذلك الذمة، إلاَّ أنه كرر، لاختلاف اللفظين؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
لَوْلاَ بنُو مالكٍ، والإِلُّ مَرْقبةٌ ** ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ

أي: الحِلْف؛ وقال آخر: [المتقارب]
وجَدْناهُمُ كَاذِبًا إلُّهُمْ ** وذُو الإِلِّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ

وقال آخر: [الرمل]
أفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا ** قَطَعُوا الإِلَّ وأعْرَاقَ الرَّحِمْ

وفي حديث أمِّ زرع بنت أبي زرع: وفيُّ الإلِّ، كريمُ الخِلِّ، بَرُودُ الظِّلِّ أي؛ وفَيُّ العهد.
الثاني: أنه القرابةُ، قاله ابنُ عبَّاسٍ والضحاك، وبه قال الفراء وأنشدوا لحسان: [الوافر]
لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُريشٍ ** كإِلِّ السَّقْبِ من رَألِ النَّعَامِ

وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله: [الرمل]
قَطَعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ

والظَّاهر أنَّ المراد به العهد- كما تقدَّم- لئلاَّ يلزم التكرار.
الثالث: أنَّ المراد به الله- تعالى- أي: هو اسم من أسمائه، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عرض عليه كلام مُسَيْلمة- لعنه الله- إنَّ هذا الكلام لم يخرج من إلّ، أي: الله- تعالى- قاله أبو مجْلزٍ، ومجاهد وقال عبيد بن عمير: يقرأ جِبْرَئل بالتشديد، يعني عبد الله ولم يرتض هذا الزجاج، قال: لأنَّ أسماءه- تعالى- معروفة في الكتابِ والسُّنَّةِ- ولم يُسمَعْ أحدٌ يقول: يا إلُّ، افعلْ لي كذا.
الرابع: أنَّ: الإلَّ الجُؤار، وهو رفعُ الصَّوت عند التحالُف، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا، وتحالفوا، جأرُوا بذلك جُؤارًا.
ومنه قول أبي جهل: [الطويل]
لإلِّ عَليْنَا واجب لا نُضيعُهُ ** مَتِينٍ قُوَاهُ غَيْرِ مُنْتكِثِ الحَبْلِ

الخامس: أنه من: ألَّ البرقُ، أي: لَمَعَ.
قال الأزهريُّ: الأليل: البريق، يقال: ألَّ يؤلُّ، أي: صَفَا ولَمَعَ، ومنه الألَّة، للمعانها.
وقيل: الإلّ من التحديد، ومنه الألَّةٌ الحَرْبة، وذلك لحدَّتها، وقد جعل بعضهم بين هذه المعاني قدرًا مشتركًا، يرجعُ إليه جميعُ ما تقدَّم، فقال الزَّجَّاجُ: حقيقةُ الإلِّ عندي على ما تُوحيه اللغة: التحديد للشيء، فمن ذلك الألَّةُ: الحَرْبَةُ، وأذنٌ مُؤلَّلَة، فالإلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد، والقرابةِ، والجُؤارعلى هذا، فإذا قلت في العهد: بينهما إلٌّ، فتأويلُه أنَّهُمَا قد حَدَّدَا في أخْذ العهود، وكذلك في الجُؤار والقرابة.
وقال الرَّاغبُ: الإِلُّ كلُّ حالةٍ ظاهرة من عَهْدٍ، وحِلْفٍ، وقرابة تَئِلُّ، أي: تَلْمَعُ، وألَّ الفرسُ: أسرع.
والألَّةُ: الحرْبَةُ اللاَّمعة وأنشد غيرُهُ على ذلك قول حماس بن قيسٍ يوم فتح مكَّة: [الرجز]
إنْ تَقْتلُوا اليوْمَ فَمَا لِي عِلَّه ** سِوَى سِلاحٍ كاملٍ وألَّه

وذِي غِرَارَيْنِ سَريعِ السَّلَّه

قال: وقيل: الإلُّ والإيلُ: اسماه لله- تعالى-، وليس ذلك بصحيحٍ.
قال الأزهريُّ: إيل من أسماء الله بالعبرانية؛ فجاز أن يكون عُرِّب، فقيل: إلّ والأللان: صفحتا السكّين. انتهى. ويجمع الإلُّ في القلَّة على آلِّ، والأصل: أألُل بزنة أفْلُس، فأبدلت الهمزةُ الثانية ألفًا، لسكونها بعد أخرى مفتوحة، وأدغمت اللاَّمُ في اللام، وفي الكثرة على إلالٍ كذِئْب، وذِئَاب.
والألُّ بالفتح: قيل: شدَّة القنوط.
قال الهرويُّ في الحديث: عجب ربكم من ألِّكُم وقُنوطكم.
قال أبو عبيدة: المحدِّثون يقولونه بكسر الهمزة، والمحفوظ عندنا فَتَحُها، وهو أشبَهُ بالمصادرِ، كأنَّه أرادَ: من شدَّة قنوطكم، ويجوزُ أن يكون من رفع الصَّوت، يقال: ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ، وأللًا، وألِيلًا، إذا رفع صوته بالبكاء، ومنه يقال له: الويل والألِيل؛ ومنه قول الكميت: [البسيط]
وأنتَ مَا أنتَ فِي غَبْراءَ مُظْلِمَةٍ ** إذَا دَعَتْ أَلَلَيْهَا الكَاعِبُ الفُضُلُ

. انتهى.
وقرأ فرقة {ألاَّ} بالفتح، وهو على ما ذكر من كونه مصدرًا، من ألَّ يَؤلُّ إذا عاهد.
وقرأ عكرمة: {إيلًا} بكسر الهمزة، بعدها ياءٌ ساكنة، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه اسمُ الله تعالى، ويُؤيِّده ما تقدم في: {لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97]، و{إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] أنَّ المعنى: عبدُ اللهِ.
الثاني: يجوزُ أن يكون مشتقًا مِن: آل يَؤُولُ: إذا صَارَ إلى آخر الأمر، أو من: آل يؤولُ: إذا سَاسَ، قاله ابنُ جني، أي: لا يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة، وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فقُلبتء ياءً، كـ: ريح.
الثالث: أنه هو الإِلُّ المضعف، وإنَّما اسْتُثقل التَّضعيفُ، فأبدل إحداهما حرف علةٍ، كقولهم: أمْلَيْتُ الكتاب، وأمْلَلْتُه.
وقال الشاعر: [البسيط]
يَا لَيْتَمَا أمَّنَا شالتْ نَعامتُهَا ** أيْمَا إلى جنَّةٍ أيْمَا إلى نَارِ

قوله: {وَلاَ ذِمَّةً} الذِّمَّة قيل: العَهْد، فيكون ممَّا كُرِّرَ لاختلافِ لفظه، إذا قلنا: إنَّ الإلَّ العهدُ أيضًا، فهو كقوله تعالى: {صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]، وقوله: [الوافر]
وألْقَى قولَها كَذِبًا ومَيْنَا

وقوله: [الطويل]
وهندٌ أتَى من دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ

وقيل: الذِّمَّة: الضَّمان، يقال: هو في ذمَّتي، أي: في ضماني، وبه سُمِّي أهل الذِّمَّة، لدخولهم في ضمانِ المسلمين.
ويقال: له عليَّ ذمَّةٌ، وذِمام ومذمَّة، وهي الذمُّ قال ذلك ابن عرفة، وأنشد لأسامة بن الحارث: [الطويل]
يُصَيِّحُ بالأسْحَارِ في كلِّ صارةٍ ** كمَا نَاشَدَ الذَّمَّ الكَفيلَ المُعَاهِدُ

وقال الرَّاغِبُ الذِّمامُ: ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته من عهدٍ، وكذلك الذِّمَّة، والمَذمَّة والمِذمة، يعني بالفتح والكسر.
وقيل: لي مَذَمَّةٌ فلا تهتكها وقال غيره: سُمِّيَتْ ذِمَّة، لأنَّ كُلَّ حُرْمة يلزمك من تضييعها الذَّمُّ، يقال لها: ذِمَّة، وتجمع على ذِمِّ، كقوله: [الطويل]
كَمَا نَاشَدَ الذَّمِّ

وعلى ذممٍ، وذِمَامٍ.
وقال أبو زيد: مَذِمَّة، بالكسْرِ من الذِّمام، وبالفتح من الذَّمِّ.
وقال الأزهري: الذِّمَّة: الأمان.
وفي الحديث: «ويسعى بذمَّتِهم أدْناهُمْ».
قال أبو عبيد: الذِّمَّة: الأمانُ ههنا، يقول إذا أعطى أدنى الناسُ أمانًا لكافر نفذَ عليهم، ولذلك أجاز عمر أمان عبدٍ على جميع العسكر.
وقال الأصمعي: الذِّمَّة: ما لَزِم أن يُحفظَ ويُحْمَى.
قوله: {يُرْضُونَكُم} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنفٌ، وهذا هو الظاهر، أخبر أنَّ حالهم كذلك.
والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل {لاَ يَرْقُبُواْ}.
قال أبُو البقاءِ: وليس بشيءٍ؛ لأنَّهم بعد ظهورهم لا يُرْضُون المؤمنين.
ومعنى الآية: يعطونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم.
قوله: {وتأبى قُلُوبُهُمْ} يقالُ: أبَى يَأبَى، أي: اشتد امتناعه، فكلَّ إباءٍ امتناعٌ من غير عكس، قال: [الطويل]
أبَى اللهُ إلاَّ عَدْلَهُ ووفاءهُ ** فَلاَ النُّكْر مَعْروفٌ ولا العُرْفُ ضَائِع

وقال آخر: [الطويل]
أَبَى الضَّيْمَ والنُّعمانُ يَحْرِقُ نَابَهُ ** عَليْهِ فأفْضَى والسُّيوفُ مَعَاقِلُهْ

فليس مَنْ فسَّره بمطلق الامتناع بمصيبٍ.
ومجيءُ المضارعِ منه على يفعل بفتح العين شاذٌّ، ومثله: قَلَى يَقْلَى في لغة. اهـ.